• الساعة الآن 01:42 AM
  • 21℃ صنعاء, اليمن
  • -18℃ صنعاء, اليمن

لنجعل أميركا معزولة مجدداً

news-details

شبّه هنري كيسنجر نفسه ذات مرة برجل الكاوبوي (راعي البقر) الذي يدخل البلدة وحيداً على صهوة جواده ليواجه الأشرار. لكن، وبصفته وزير الخارجية الأميركي الذي شغل أيضاً منصب مستشار الأمن القومي، كان يدرك أن التعامل مع القوى الكبرى يتطلب نهجاً مختلفاً. وكان مثله الأعلى في السياسة رجل الدولة النمسوي كليمنس فون مترنيخ، الذي نجح بطريقة ما في جمع مزيج غير متوقع يضم النمسا والمملكة المتحدة وبروسيا وروسيا وعدداً من الحلفاء الأصغر وقادتهم غير المتوافقين، ضمن تحالف هزم نابليون في النهاية عام 1815. لقد فهم كيسنجر أن حتى رعاة البقر المنفردين في حاجة إلى أصدقاء.

لكن يبدو أن هذه البصيرة غائبة تماماً لدى الرئيس الأميركي دونالد ترمب. فمنذ عودته إلى البيت الأبيض خلال يناير (كانون الثاني)، وصف ترمب أقرب حلفاء الولايات المتحدة بأنهم مخادعون ومتطفلون. في حين أن اليابان وشركاء تجاريين آسيويين آخرين "مدللون للغاية" بحسب وصفه، بينما يتهم الجيران المباشرين في أميركا الشمالية بتصدير المخدرات والمجرمين. وهو لا يتردد في وصف قادة بعض أهم الشركاء الديمقراطيين للولايات المتحدة بكل حرية وبصورة علنية بأنهم غير مهمين، أو ضعفاء أو غير صادقين، بينما يغدق الثناء على الحكام المستبدين الذين يجد التعامل معهم أسهل، مثل الرئيس المجري فيكتور أوربان "قائد عظيم جداً"، والرئيس السلفادوري نجيب بوكيلة "صديق عظيم"، والديكتاتور الكوري الشمالي كيم جونغ أون "رجل ذكي"، وحتى وقت قريب جداً في الأقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي وصفه بأنه "عبقري" و"ماهر للغاية" في هجومه على أوكرانيا. وفي خطوة كان من غير الممكن تصورها في الإدارات السابقة بما في ذلك إدارة ترمب الأولى، وقفت الولايات المتحدة خلال فبراير (شباط) الماضي ضد حلفائها الديمقراطيين، وصوتت مع روسيا ودول استبدادية أخرى مثل كوريا الشمالية وبيلاروس ضد قرار في الأمم المتحدة يدين عدوان روسيا على أوكرانيا، ويدافع عن سيادتها وسلامة أراضيها.

وربما ما يثير الحيرة أكثر أن إدارة ترمب، خلال وقت تسعى فيه واشنطن إلى احتواء الصين وتعزيز دفاعاتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، تستعد لفرض تعريفات جمركية عقابية على كوريا الجنوبية واليابان، أقرب حلفاء الولايات المتحدة في آسيا، إضافة إلى قائمة طويلة من الشركاء الأوروبيين الذين تحاول إبعادهم من بكين. علاوة على ذلك، فإن حلفاء الولايات المتحدة حول العالم يشعرون بالقلق من التصريحات العلنية لترمب وأعضاء إدارته بأن ما يسمى المظلة النووية، التي شكلت سابقاً ضمانة لحمايتهم من خلال الردع النووي الأميركي، لم تعد أمراً مؤكداً. وبلغ مستوى الشك حداً دفع بفرنسا والمملكة المتحدة خلال يوليو (تموز) الماضي إلى الإعلان عن اتفاق جديدة لبدء توفير ردع نووي موسع داخل أوروبا، وبدأت دول حليفة مثل كوريا الجنوبية وبولندا وحتى اليابان تفكر في امتلاك أسلحتها النووية الخاصة.

صحيح أن التاريخ مليء بأمثلة عن تصدعات بين القوى العظمى مع حلفاء سابقين أو سعيها إلى بناء تحالفات جديدة، لكن نادراً ما أقدم زعيم لتحالف رئيس على تهميش حلفاء كانوا في معظمهم موثوقين وملتزمين بقيادته، بهذه الدرجة من القسوة والازدراء. فإذا أرادت الولايات المتحدة الوصول إلى موارد كندا أو غرينلاند، فهذه الموارد كانت دوماً متاحة. أما التهديد بضمها فهو يحقق نتيجة عكسية، إذ يثير موجات عداء للولايات المتحدة كما حدث فعلاً. صحيح أن حلفاء واشنطن في الناتو لم ينفقوا ما يكفي على موازنة الدفاع، لكن ذلك يعود جزئياً إلى أن الولايات المتحدة أصرت لعدة عقود على لعب الدور المهيمن. وعندما ضُغط عليهم، مثلما حصل في قمة الحلف الأخيرة خلال يونيو (حزيران) الماضي، زادت الدول الأعضاء في التحالف عبر الأطلسي موازناتها الدفاعية، أو تعهدت بذلك إلى مستويات لم يكن من الممكن تصورها قبل أعوام قليلة فحسب.

من الصعب إيجاد تفسير منطقي لسياسات إدارة ترمب الثانية. وإذا كان الرئيس ضاق ذرعاً بالتحالفات الحالية، فإنه لم يقدم بدائل حقيقية سوى ما يبدو أنه تعلق قديم بمفهوم "مناطق النفوذ"، إذ تهيمن قوى كبرى معدودة على جيرانها المباشرين، بينما لا يكون للمنظمات متعددة الأطراف - إن بقي لها وجود أصلاً- أية سلطة أو نفوذ يذكر. ومثل هذا العالم لا يجلب إلا تهديدات أكبر في المستقبل للولايات المتحدة، إذ إن مجالات النفوذ الأخرى، التي يفترض أنها تشمل آسيا الخاضعة لهيمنة الصين، وربما منطقة روسية في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، ستتصادم مع بعضها بعضاً، فيما تضطر القوى الأصغر داخل كل مجال نفوذ إما إلى قبول مصيرها على مضض أو البحث عن قوى مهيمنة جديدة.

ومن خلال تقويض التحالفات التي خدمتها طويلاً، تخاطر الولايات المتحدة بانهيار عام في الاستقرار والنظام وهو ما سيكلفها غالياً على المدى الطويل، سواء من حيث الإنفاق العسكري أو الحروب التجارية التي لا تنتهي، إذ تسعى كل قوة كبرى لتحقيق مكاسب عند نقاط التماس بين مناطق نفوذها. واللافت أن غياب سوابق تاريخية لهذا السلوك لا يوحي بوجود سياسة مكيافيللية ذكية لتعزيز القوة الأميركية، بل إنه يظهر الولايات المتحدة وهي تتصرف بطريقة محيرة تتعارض مع مصالحها الخاصة، ويقوض أحد أبرز مصادر قوتها. ويحدث كل ذلك خلال وقت تتعرض فيه القيادة العالمية الأميركية وهيمنتها الاقتصادية والتكنولوجية لضغوط متزايدة من الصين ومنافسين كبار آخرين.

قاعدة القوة

على مدى قرون، عدت قيمة التحالفات حتى بين الدول الشديدة الاختلاف عنصراً أساساً في العلاقات الدولية، فمنذ أقدم العصور دأبت الجماعات سواء كانت عشائر أو أمماً على التكاتف لحماية نفسها من الأعداء المشتركين. فخلال القرن الخامس قبل الميلاد، هزمت رابطة ديليان التي ضمت مدناً يونانية الإمبراطورية الفارسية، وخلال عام 1815 اتحدت النمسا والمملكة المتحدة وبروسيا وروسيا ضمن تحالف كبير لهزيمة فرنسا بقيادة نابليون. يمكن لقضية مشتركة أن تجمع بين شركاء غير متوقعين على الإطلاق، مثل فرنسا الكاثوليكية والإمبراطورية العثمانية المسلمة، اللتين تحالفتا خلال القرن الـ16 وبقيتا حليفتين لأكثر من قرنين، أو الاتحاد السوفياتي بقيادة جوزيف ستالين مع المملكة المتحدة والولايات المتحدة، التي هزمت معاً ألمانيا واليابان وقوى المحور الأخرى في الحرب العالمية الثانية.

قبل أن يصبح العالم مترابطاً بهذه الصورة ومع صعوبة وسائل الاتصال قديماً، سمحت الجغرافيا لبعض الدول بالعيش من دون حلفاء. فقد تمكنت اليابان من البقاء في عزلة كاملة لقرنين ونصف القرن إلى أن واجهت عالماً مختلفاً وأكثر اتساعاً حين زارها العميد البحري الأميركي ماثيو بيري عام 1853. أما الولايات المتحدة، المحمية بمحيطين من دون أعداء أقوياء على حدودها البرية، فقد تباهت لمعظم تاريخها بتجنب التحالفات. حتى عندما دخلت الحرب العالمية الأولى متأخرة إلى جانب الحلفاء، أصر الرئيس وودرو ويلسون على أن الولايات المتحدة كانت "قوة مشاركة" وليست حليفاً. ولم تتخل واشنطن عن هذا الارتياب تجاه التحالفات إلا بعد عام 1945، حين واجهت الاتحاد السوفياتي العدائي والصين الشيوعية، الشريك الوثيق لموسكو آنذاك، فدخلت في تحالفات دفاعية دائمة في زمن السلم، وعلى رأسها حلف شمال الأطلسي، وذلك للمرة الأولى في تاريخها. وكما نرى اليوم، فإن النزعة الانعزالية في السياسة الخارجية الأميركية لم تختف تماماً. 

لقد فهم كيسنجر أن حتى أولئك الذين يفضلون العمل بمفردهم في حاجة إلى حلفاء

 

وكما أدركت إدارة ترومان قبل 80 عاماً، فإن حتى الدول القوية تحتاج إلى حلفاء، ليس فقط من أجل الحفاظ على مكانتها بل لأن للقوة حدوداً، والحفاظ عليها مكلف جداً. بحلول أواخر القرن الـ19 كانت الإمبراطورية البريطانية أكبر إمبراطورية في تاريخ العالم، تشهد ما سماه المؤرخ بول كينيدي "التمدد الإمبراطوري المفرط"، إذ واجهت منافسين قدامى مثل فرنسا وروسيا وآخرين جدداً مثل ألمانيا واليابان والولايات المتحدة. وعلى رغم أن الاقتصاد البريطاني كان لا يزال قوياً، وعلى رغم هيمنة بحريتها على المحيطات، فإن الآخرين كانوا يلحقون بالركب. وكانت وزارة الخزانة البريطانية ودافعو الضرائب البريطانيون يتذمرون من الكلف المرتفعة للحفاظ على الهيمنة.

وظهر مدى الاستياء من المملكة المتحدة بوضوح عندما وجدت صعوبة في سحق جمهوريتين بويريتين [السكان من أصل هولندي في جنوب أفريقيا] صغيرتين (جمهورية ترانسفال ودولة أورانج الحرة) خلال حرب جنوب أفريقيا بين عامي 1899 و1902. وفي الواقع، كشفت انتصارات "البوير" المبكرة عن قصور الجيش البريطاني ولاقت ترحيباً عالمياً واسعاً، أما المعاملة الوحشية التي تعرض لها المدنيون من "البوير" فقد زادت من تآكل سمعة الإمبراطورية البريطانية. وفي معرض باريس عام 1900، توافدت الجماهير لوضع الزهور، إعجاباً بجناح الترانسفال. وصُدم البريطانيون عندما أدركوا مدى كره العالم لهم، مما جعلهم يدركون أنهم، حتى هم، في حاجة إلى أصدقاء. وسرعان ما توصلت الحكومة البريطانية إلى تفاهمات مع منافسيها، فرنسا واليابان وروسيا، مما قلل من احتمالية الصراع مع كل منها، وشجع على التعاون، بالتالي قلل من وطأة التمدد المفرط. وظلت المملكة المتحدة، في نظر معاصريها، القوة العالمية المهيمنة، ويمكن القول إن ذلك استمر حتى منتصف الحرب العالمية الثانية.

تظهر التجربة البريطانية أن القوة العالمية لا تُقاس بالموارد العسكرية فحسب. فمن السهل نسبياً إحصاء المدافع والسفن والطائرات وقياس الإنتاج الاقتصادي أو القوة العلمية والتكنولوجية، ولكن من الصعب قياس الكفاءات والقدرة التنظيمية أو فعالية الحكم أو المعنويات. فقبل غزوها الشامل لأوكرانيا خلال عام 2022 بدت روسيا قوية، وكانت حليفاً مرغوباً للصين وإيران وكوريا الشمالية. لكن اليوم، بعد ثلاثة أعوام ونصف العام من الحرب غير الناجحة والخسائر الفادحة، فقد أصبحت عبئاً أكثر من كونها ورقة قوة. يحتاج أي بلد إلى أن يتمتع بصدقية في نظر الآخرين، سواء كانوا حلفاء أو خصوماً أو شعبه نفسه. وعندما فشلت روسيا السوفياتية في ثمانينيات القرن الـ20 ثم الولايات المتحدة خلال العقود الأولى من هذا القرن في أفغانستان، على رغم تفوقهما العسكري الساحق، أصاب ذلك الفشل حلفاءهما بالإحباط، ودفع الحياديين إلى الابتعاد، وهز ثقة شعوبهما بحكومتيهما، بينما شجع الأعداء المحتملين. وكان يفترض أن تشكل ثورة البلاشفة خلال عام 1917 –التي أتت نتيجة لهزائم روسيا العسكرية– إنذاراً مبكراً للنظام السوفياتي حول عواقب الفشل... وإنذاراً اليوم لفلاديمير بوتين.

القوة أيضاً ليست أمراً ثابتاً، فعلى رغم أن المملكة المتحدة كانت في صف المنتصرين خلال الحربين العالميتين، فإن مواردها استنزفت وإمبراطوريتها بدأت تتفكك. فهل لا تزال الولايات المتحدة بالقوة التي كانت عليها في السابق؟ لقد منيت بإخفاقات في الخارج، لا سيما في أفغانستان والعراق وتشهد انقساماً متزايداً في الداخل، وتعاني ديوناً وطنية متضخمة واستثمارات متضائلة في البنية التحتية الحيوية. وخلال عصر تتسارع فيه وتيرة تطوير الصواريخ السريعة والبعيدة المدى، لم يعد الموقع الجغرافي عائقاً أمام الخصوم كما كان في السابق، وهذا سبب إضافي يجعل من الضروري تعزيز التحالفات مع القوى المتقاربة بدلاً من نبذها. لم تشكل كندا أبداً أي تهديد للولايات المتحدة إلا في لعبة الهوكي، والكنديون طالما نظروا إلى الأميركيين على أنهم أقرباء لهم. والحدود بين البلدين هي أطول حدود من دون دفاع عسكري في العالم. وهناك ترابط اقتصادي كبير بين البلدين.

ومع ذلك، فإن ما فعله ترمب بحديثه عن الولاية 51 وفرضه رسوماً جمركية عقابية، وتهديداته بأن الولايات المتحدة لن تدافع عن كندا بموجب نظام الدفاع الصاروخي المقترح "القبة الذهبية" ما لم تدفع ثمنه (مع استمراره في رفع كلفته المفترضة)، أثار غضب شعب عادة ما يعرف بالهدوء والاعتدال. ففي أوتاوا، يسود شعور بالصدمة والذهول. وما كان يعد من الأسس الراسخة في السياسة الخارجية الكندية بدأ يذوب مثلما تذوب الأنهار الجليدية في غرينلاند. وما يدمر الآن لن يكون من السهل إصلاحه، وبالتأكيد ليس خلال جيل واحد. والسؤال الذي يطرح، مقابل ماذا؟

رعاة التحالفات الدائمون

على غرار عدد من العلاقات الإنسانية الأخرى تتطلب التحالفات جهداً كبيراً، إذ إن إدارتها تحتاج إلى الصبر والتحمل والمهارة، وهي مثل البستان تتطلب رعاية مستمرة. وغالباً ما تكون الرهانات في التحالفات عالية، وقد يكون لشخصية القادة والدبلوماسيين المشاركين دور حاسم. فالدبلوماسية ليست مجرد حضور حفلات الكوكتيل، وإن كان الجانب الاجتماعي جزءاً منها، بل هي بالأحرى اكتساب فهم عميق لطبيعة الأمم الأخرى وقادتها، وتعلم التفاوض معهم. أما توبيخ الحلفاء علناً على أخطائهم المزعومة، مثلما فعل نائب الرئيس جي دي فانس مع الأوروبيين ضمن مؤتمر ميونيخ للأمن خلال فبراير الماضي، أو إطلاق الأوامر والإهانات على وسائل التواصل الاجتماعي، كما يفعل الرئيس بصورة شبه يومية، أو نشر رسائل موجهة إلى رؤساء دول آخرين علناً قبل أن تسلم إليهم، لا يؤدي إلا إلى تراكم مشاعر الاستياء ويجعل العلاقات الشخصية المستقبلية أكثر صعوبة.

لو لم يتمكن كيسنجر من بناء علاقة قائمة على الاحترام المتبادل مع نظيره الصيني تشو إنلاي، لربما تأخر انفتاح العلاقات بين الولايات المتحدة والصين خلال إدارة نيكسون لأعوام. وقد تكون حالة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت أكثر دلالة، فمنذ اندلاع الحرب داخل أوروبا عام 1939، عمل تشرشل -كما قال- على التودد إلى روزفلت مثل العاشق. كان يعلم أن انتصار المملكة المتحدة يتطلب موارد أميركية من أسلحة وأموال، وكان يأمل بشدة أن تنخرط القوات الأميركية نفسها ضمن القتال إلى جانب بلاده في نهاية المطاف. ومن جانبه، لم يكن روزفلت يريد فشل البريطانيين، وعلى رغم أنه كان مقيداً في البداية بالرأي العام الأميركي الذي كان يرفض الدخول في الحرب، فإنه وسع نطاق صلاحياته الرئاسية لأقصى درجة لتقديم أكبر قدر ممكن من المساعدة.

مع تطور أحداث الحرب العالمية الثانية، سافر القائدان آلاف الأميال على متن السفن والطائرات للقاء بعضهما بعضاً ومقابلة ستالين، معرضين حياتهما وصحتهما للخطر في كثير من الأحيان. ولولا العلاقة الشخصية القوية بين تشرشل وروزفلت، لكانت التوترات والاختلافات التي لا مفر منها عادة في أي تحالف أعاقت بصورة كبيرة التخطيط الاستراتيجي المشترك، والمعونة العسكرية الحيوية المقدمة من الولايات المتحدة بموجب قانون الإعارة والتأجير [الذي كان وسيلة أميركية لتقديم الدعم العسكري لحلفائها دون إعلان الحرب رسمياً]. وتوطدت الشراكة بين بلديهما وتعززت بفضل آلاف الخبراء والإداريين والناشرين والمثقفين والعسكريين في الخدمة الذين تعلموا كيف يعملون معاً، وإن لم يكن ذلك سهلاً دائماً.

القوة العالمية لا يمكن أن تقاس بالموارد العسكرية وحدها

 

فلنأخذ على سبيل المثال الصداقة العميقة والنادرة التي نشأت بين الممثل العسكري الأعلى للمملكة المتحدة في واشنطن جون ديل، ورئيس أركان الجيش الأميركي جورج مارشال المتحفظ بطبعه وأهم مستشار عسكري لروزفلت. معاً، تمكن الجنرالان من رأب صدوع كانت عميقة أحياناً وحادة في أحيان أخرى بين زملائهما وبين القادة السياسيين لكلا البلدين. وعلى رغم أن تشرشل ومن جاء بعده بالغوا في تصوير مدى تميز "العلاقة الخاصة" التي نشأت بعد الحرب، فإن هذه العلاقة خدمت كلاً من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة جيداً، بدءاً من جسر برلين الجوي في بداية الحرب الباردة إلى سقوط جدار برلين في نهايتها.

لكن التحالفات غالباً ما تنتهي بعد زوال هدفها المباشر. لقد كانت جهود تشرشل وروزفلت أقل نجاحاً في بناء صداقة أكثر ديمومة مع ستالين والاتحاد السوفياتي، إذ كانت الهوة بين الديمقراطيات والديكتاتورية السوفياتية شاسعة للغاية، فالذكريات السوفياتية عن تدخل الحلفاء ضد البلاشفة في نهاية الحرب العالمية الأولى، والعلاقات المتوترة في فترة ما بين الحربين، والشكوك العميقة التي نشأت جزئياً من التاريخ الروسي وجزئياً من الافتراضات الماركسية حول المعركة النهائية المقبلة بين الرأسمالية والاشتراكية، جعلت من العلاقات الطبيعية أمراً شبه مستحيل. كانت الحاجة إلى هزيمة ألمانيا النازية والديكتاتورية العسكرية اليابانية نقطة الوصل الرئيسة التي حافظت على تماسك التحالف الكبير، وعندما زالت هذه الحاجة زال التحالف أيضاً. وهذا ما حدث مراراً على مدار التاريخ، سواء في انهيار رابطة ديليان [تحالف المدن اليونانية بقيادة أثينا، والذي تأسس خلال القرن الخامس قبل الميلاد لمواجهة التهديد الفارسي، وكان مركزه في جزيرة ديلوس] بعد هزيمة بلاد فارس، أو عندما خاضت دول البلقان حروباً مع بعضها بعضاً عام 1913 بعدما هزمت معاً الإمبراطورية العثمانية.

على رغم صعوبة قياسها، تلعب المشاعر مثل المحبة أو الكراهية، والإعجاب أو الازدراء، وهي من صميم العلاقات الإنسانية اليومية، دوراً حاسماً في تشكيل التحالفات وتفكيكها. فالصداقة الشخصية والاحترام والثقة المتبادلة هي بمثابة الوقود المشغل للآلة المعقدة التي تحافظ على استمرار هذه العلاقات. وفي مناسبات عدة منذ عام 1945، تمكن القادة البريطانيون والأميركيون، من بينهم هارولد ماكميلان وجون أف. كينيدي ومارغريت ثاتشر ورونالد ريغان وجورج دبليو بوش وتوني بلير من إقامة علاقات جيدة، عززت الشراكة بين بلديهم. ومع ذلك، في غياب مثل هذا الانسجام، أو حتى غياب الحد الأدنى من الثقة بين القادة، يمكن أن تتدهور العلاقات بسرعة مفاجئة، كما يشهد العالم مرة أخرى اليوم. فالإمبراطور الروسي ألكسندر الأول سئم من وصاية نابليون وبدأ يبتعد تدريجاً نحو أعدائه. كذلك، شعر ماو تسي تونغ ورفاقه باستياء متزايد من ادعاءات السوفيات بالتفوق وتصوراتهم بأنهم قادة الحركة الشيوعية العالمية، في حين رأى خليفة ستالين، نيكيتا خروتشوف، في الصينيين أنهم مخادعون وغير جديرين بالثقة، مما أسهم في الانقسام العلني والمرير بين الصين والاتحاد السوفياتي بعد عام 1962.

رمي الأوراق الرابحة

منذ عام 1945، اعتمدت عشرات الدول في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط على علاقاتها الأمنية مع واشنطن. ويشمل ذلك الدول الـ31 الأخرى الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، والدول الآسيوية التي تربطها تحالفات عسكرية رسمية مع الولايات المتحدة، مثل أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، وتلك التي تربطها شراكات عسكرية أميركية أقل رسمية ولكن واسعة النطاق مثل إسرائيل والسعودية. ثم هناك دول أخرى حول العالم اعتادت العمل مع الولايات المتحدة على أساس ودي، مثل تشيلي وفيتنام. ورحبت هذه المجموعة المتنوعة من الدول بالحماية والقيادة الأميركية على مدى العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، ليس فقط لأن القوة العظمى الأميركية كانت قوية، بل لأنها مثلت أملاً في عالم أفضل وأكثر عدالة.

ومع ذلك، هناك اليوم احتمال حقيقي بأن ينضم التحالف الغربي إلى قائمة التحالفات التي فشلت. كثيراً ما شعر ترمب بعدم الارتياح إزاء سياسة الأخذ والعطاء في التحالفات. وقد يكون ذلك نابعاً جزئياً من خبرته الشخصية في مجال الأعمال، إذ كان دائماً الآمر الناهي. كان يدير شركاته من خلال مكاتب صغيرة، خلافاً للشركات الكبرى ذات الهياكل التنظيمية والمجالس الإدارية الخارجية. وفي برنامجه التلفزيوني "المتدرب" The Apprentice))، كانت عبارته الشهيرة "أنت مطرود!".

في ولايته الأولى، بدا ترمب غير مرتاح خصوصاً في الاجتماعات المتعددة الأطراف، إذ كان عليه التعامل مع القادة الآخرين على قدم المساواة، مثلما حدث ضمن قمة مجموعة السبع في كندا عام 2018، حين وصل متأخراً وغادر مبكراً، بعدما تشاجر مع القادة الآخرين حول سياساتهم التجارية والتعريفات الجمركية. وقد صدم الحلفاء عندما انسحب بصورة أحادية من اتفاقات مهمة جرى التفاوض عليها بشق الأنفس، مثل اتفاق باريس للمناخ وخطة العمل الشاملة المشتركة الرامية إلى الحد من قدرة إيران على تطوير أسلحة نووية (اتفاق يشبه إلى حد بعيد ذلك الذي عرضته إدارة ترمب الثانية على إيران، قبل أن تنجرف في الأقل إلى قصف المنشآت النووية الإيرانية خلال يونيو). وعبر عن موقفه بعبارة أصبحت شعاراً لولايته الثانية، فاشتكى قائلاً "نحن مثل حصالة النقود التي ينهبها الجميع".

اليوم، أصبح ترمب أكثر حرية في التصرف بناءً على نزواته، إذ إن مستشاريه المخضرمين والمحترمين الذين واجهوه خلال ولايته الأولى، استُبدل المقربون والمتملقون بهم. ومن حين لآخر، لا يزال يتعين على ترمب التعامل مع قوى ديمقراطية أخرى أو حتى منظمات متعددة الأطراف، وأظهر بوضوح نفاد صبره تجاهها. ومع استثناءات قليلة، أصبح المكتب البيضاوي مجرد مسرح لاستعراض هيمنته، وعندما يشارك في الاجتماعات الدولية، يبقى حضوره مقتضباً قدر الإمكان. ولا تزال الإهانات المجانية تتوالى من الرئيس موجهة إلى حلفاء الناتو والاتحاد الأوروبي ومجموعة "بريكس" والأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية. ومن الصعب تلمس أي هدف شامل من وراء ذلك، سوى إبقائه في مركز الاهتمام.

يفضل ترمب التعامل مع العلاقات الدولية على أنها سلسلة من الصفقات، فيعقد لقاءات مباشرة أو مكالمات مطولة مع زعيم واحد في كل مرة، ويبدو مرتاحاً مع المستبدين الأقوياء أكثر من الزعماء الديمقراطيين. وإذا دعت الحاجة، فإنه لا يتوانى عن الضغط على الأصدقاء والخصوم على حد سواء لإجبارهم على الخضوع، مفترضاً أنهم سيتخلون عن أية معارضة إذا كان العرض على الطاولة مغرياً بما يكفي، أو إذا بدا أن واشنطن تمسك بأقوى الأوراق (قال للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في ما أصبح معروفاً على نطاق واسع بأنه توبيخ مهين في المكتب البيضاوي "أنت لا تملك الأوراق الآن").

ليت الأمر بهذه البساطة. فالدول لا تتصرف دائماً وفق ما يعتقد الآخرون أنه يخدم مصالحها. فقد ظن هتلر عام 1940 أن المملكة المتحدة لا خيار لها سوى الاستسلام، تماماً مثلما اعتقد بوتين أن أوكرانيا ستنهار في غضون أيام أمام الغزو الروسي. وكما أدرك روزفلت قبيل وفاته خلال ربيع عام 1945، فإن القادة قد يعرفون المصالح بطرق مختلفة. فالمعتقدات والاختلافات الثقافية والشخصية قد تكون مؤثرة ومهمة بقدر العوامل الموضوعية مثل التركيبة السكانية أو الجغرافية. فستالين خرج من عالم مختلف تماماً، وكانت له تجارب وأهداف تختلف جذرياً عن تلك التي عرفها ابن العائلة الأميركية العريقة.

الدمار الأميركي

في عالم ترمب، لا أهمية للثقة المتبادلة والاحترام وهما قيمتان يصعب بناؤهما ويسهل تدميرهما. فالأطراف ستتعاون إذا اقتضت مصلحتها ذلك، إلى أن يأتي عرض أفضل. ترى روسيا فوائد الصداقة مع الولايات المتحدة. أما الحلفاء الأوروبيون فسيتذمرون لكنهم سينفذون ما تريده واشنطن، وإلا سيجدون أنفسهم وحيدين وبلا أصدقاء. ستتفاوض الصين في شأن التجارة، وتعد مثلاً بشراء المنتجات الزراعية الأميركية، لأنها لا تريد أن تُقصى من الأسواق الأميركية. وإذا أرادت بكين تايوان، فلم لا يسمح لها بضمها ما دامت الولايات المتحدة تحصل على شيء في المقابل؟ يبدو أن الرئيس يفترض أن الحلفاء الحاليين والمحتملين يرون العلاقات الدولية كما يراها هو. إذا خسرت جولة، فقد تربح الجولة التالية. لكن الدول، كالأفراد، لا تنسى الإهانات أو الهزائم القديمة، وهي حقيقة يجب أن يكون ترمب على دراية بها.

إن الثقة بين الأفراد أو الدول يصعب قياسها، لكن لا يمكن أن تقام علاقات دائمة ومثمرة من دونها. خلال الحرب الباردة، كانت المفاوضات بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في شأن الحد من التسلح مضنية ومطولة، لأن أياً من الطرفين لم يثق في الآخر. وكانت حوادث مثل اعتراض طائرة يو-2 بقيادة الطيار الأميركي غاري باورز فوق الاتحاد السوفياتي عام 1960، أو إسقاط السوفيات للطائرة الكورية عام 1983، تفسر دوماً من الطرف الآخر كدليل على نيات خبيثة. على النقيض من ذلك، وعلى رغم وجود توترات بين الولايات المتحدة وحلفائها، فإن كل طرف كان يفترض في الغالب أن الطرف الآخر يتصرف بنية حسنة، وكان هناك استعداد لمناقشة القضايا الصعبة والبحث عن حلول مقبولة للطرفين. ولم يعد هذا الإطار قائماً اليوم، ولا يمكن استعادته بسهولة أو بسرعة.

قد يكون التحالف الغربي في طريقه إلى الانضمام لقائمة التحالفات التي فشلت

 

تعيش الولايات المتحدة الآن ما عاشته المملكة المتحدة حتى في أوج إمبراطوريتها. فكونها أعظم قوة عسكرية في العالم يمثل عبئاً ثقيلاً، ومن بين النتائج المترتبة على ذلك، أن الدين الأميركي يستمر في النمو إلى مستويات مذهلة. والقوى الطموحة، وعلى رأسها الصين، تضخ موارد هائلة في سباق تسلح يزداد كلفة باستمرار. ومثلما حدث مراراً في التاريخ، فإن دولاً أخرى تميل إلى التخلي عن القوة القديمة لمصلحة القوة الجديدة، أو التكتل ضدها لاستغلال ما تراه تراجعاً لنفوذها. إذا استمر عداء ترمب الحالي للتحالفات، وواصلت إدارته إهانة شركائها القدامى والتقليل من شأنهم، بل وحتى الإضرار بهم اقتصادياً، فستجد الولايات المتحدة أن العالم مكان يزداد عدائية تجاهها.

ومثلما فعلت جمهورية سلوفاكيا أو صربيا بالفعل، قد يقرر حلفاء سابقون أو قوى محايدة أن روسيا بوتين تمثل خياراً أفضل، وقد يتجاوز آخرون الولايات المتحدة من خلال ترتيبات تجارية جديدة، أو كما يحدث مع الدول الأوروبية وكندا، من خلال تقاسم الإنتاج العسكري والتخطيط والردع المشترك، انطلاقاً من افتراض أن الولايات المتحدة لم تعد حليفاً يعول عليه. وفي مؤشر إلى ما قد يكون مقبلاً، أرسلت كندا أخيراً أول شحنة من الغاز الطبيعي المسال إلى آسيا. كان البريطانيون يصفون موقعهم في العالم بـ"العزلة الرائعة"، إلى أن أدركوا أن كلفتها باهظة. وقد تكتشف الولايات المتحدة في عهد ترمب أن تلك الروعة، خلال القرن الـ21 المحفوف بالأخطار، مجرد مبالغة.

مترجم عن "فورين أفيرز" الـ21 من يوليو 2025

مارغريت ماكميلان أستاذة فخرية في التاريخ الدولي بجامعة أكسفورد ومؤلفة كتابي "الحرب، كيف شكلنا الصراع" و"الحرب التي أنهت السلام، الطريق إلى عام 1914".

شارك المقال: