• الساعة الآن 10:52 PM
  • 21℃ صنعاء, اليمن
  • -18℃ صنعاء, اليمن

‏قراءة نقدية في مسار الفكر القومي العربي

news-details

 

 نايف القانص 
             

منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى أواخر الثمانينات، شكّل الفكر القومي العربي تيارًا مركزيًا في الحياة السياسية والفكرية العربية. كان الحلم بوحدة العرب، والتحرر من الاستعمار، وبناء نهضة عربية، هو العنوان العريض لمرحلةٍ سيطرت فيها الحركات القومية على المشهد، وتحولت من مجرد أفكار إلى أنظمة حكم ومؤسسات.

لكن، وبدايةً من تسعينيات القرن الماضي، بدأ هذا الفكر يتراجع بشكل ملحوظ. لم يعد القومي العربي هو النموذج الملهم، ولم تعد الشعارات الوحدوية تثير الحماسة كما كانت. في المقابل، صعدت تيارات أخرى، خاصة التيارات الدينية، وملأت الفراغ الذي تركه الانهيار المتسارع للحركات القومية.

وعلى المستوى السياسي، تعرّضت الدول التي حكمها القوميون لسلسلة من الضربات، ليس من الخارج فحسب، بل من الداخل أيضًا. فشل في الإدارة، استبداد سياسي، اقتصاديات متهالكة، وانغلاق فكري جعلها عاجزة عن التعامل مع المتغيرات المتسارعة في العالم. تحولت الكثير من الأنظمة القومية إلى أنظمة بوليسية، قيدت الحريات، وخلقت نخبة حاكمة تعيش في رفاه، بينما تُطالب الشعوب بالصبر والتقشف باسم القومية والاشتراكية.

وفي الجهة المقابلة، تقدّمت دول كان يُنظر إليها في الأدبيات القومية على أنها “رجعية”. لكنها، رغم تحفظاتها على بعض الحريات، تمكنت من تحقيق الاستقرار، وجذبت الاستثمارات، ورفعت من مستوى معيشة مواطنيها، ونجحت في ترسيخ حضورها الإقليمي والدولي.

هنا، لا بد أن نتوقف ونسأل: ما الذي حدث؟
لماذا تراجعت القومية، وصعدت التيارات الأخرى؟
هل اكتفينا بترديد نظرية المؤامرة، أم أجرينا مراجعة حقيقية وجريئة؟
وهل قمنا بمساءلة الذات، أم أن الخطاب ما زال يحمّل الآخرين كل مسؤولية الفشل؟

الحقيقة أننا بحاجة إلى الاعتراف، لا لمجرد جلد الذات، بل لفهم المسار وتصحيحه. الفكر القومي فشل، لا لأنه فكرة سيئة بالضرورة، بل لأن حامليه فشلوا في تجسيده على الأرض. لأنهم انشغلوا بالتنظير، وتغافلوا عن بناء المؤسسات، واهتموا بالشعارات أكثر من اهتمامهم بالإنسان. لأنهم جعلوا من أنفسهم أوصياء على الشعوب، بدلًا من أن يكونوا خدمًا لها.

لقد تراجعت القومية العربية حين تحوّل الحاكم إلى زعيم أوحد، وحين أصبح الاختلاف خيانة، وحين أصبحت الوحدة مجرد حلم نظري لا يستند إلى وقائع اجتماعية واقتصادية وإنسانية.

ولذلك، إذا أردنا أن يبقى لهذا التيار ما يستحق البقاء، فعلينا أن نعيد النظر في منطلقاته. أن نكفّ عن اجترار الماضي، ونتعامل مع الحاضر بلغة الواقع، لا بلغة المؤامرة. أن نُنتج فكرًا جديدًا، يؤمن بالإنسان أولًا، ويضع الحرية والتنمية في قلب أي مشروع قومي.

نحن بحاجة إلى نظريات جديدة، لا تقوم على الأصنام السياسية ولا على الخطابات الحماسية، بل على الفعل، وعلى احترام الإنسان، وعلى بناء دول قوية تحمي كرامة مواطنيها، لا أن تطلب منهم الموت في سبيل شعارات لم تجلب لهم إلا الفقر والانكسار.

شارك المقال: