خاص | النقار
في عالمٍ حيث تُختزلُ الدولة إلى "عصابة مُنظمة"، والاقتصاد إلى سوقٍ للمساومات، لم يَعُد غريبًا أن تُعلن سلطة صنعاء عن نفسها كأفضل مُسوِّقٍ لـ"سياحة رجال الأعمال" نحو المنافس! فالهروبُ الجماعي للتجار من مناطق سيطرة الحوثيين ليس مجرد نزيف اقتصادي، بل هو مشهدٌ تراجيدي-كوميدي يُجسِّدُ مفارقةً تاريخية: سُلطة ترفع شعارات "الاستقلال" و"المقاومة"، بينما تدفعُ رأس المال الوطني إلى خارج الوطن.
ليس ياسر مصلح اللوزي مجرد تاجرٍ قررَ بيعَ منازله ومصانعه في صنعاء، بل هو رمزٌ لـ"موجة الهجرة" من رجال الأعمال الذين حوَّلتهم سلطة الحوثيين من ركائز تنمية إلى أهدافٍ للنهب المُمنهج. فسردية اللوزي حول محاولة الاستيلاء على أرضه من قبل حمود جعفر – المقرب من دوائر النفوذ – ليست حكاية فردية، بل نموذجًا لاقتصادٍ قائم على الريع العسكري، حيث تُدار المنافسة التجارية بمنطق القوة المُسلحة.
المضحك المبكي هنا أن أنصارالله، الذين يتبجحون بـ"محاربة الإمبريالية"، يمارسون نسختهم المحلية من "الاستعمار الداخلي": فباسم "مقاطعة المنتجات الأمريكية"، تُغلق الشركات، وبذريعة "فحص الجودة"، تُحتجز البضائع حتى تفسد، أو تُسرق تحت حراب الدولة القادرة. حتى هيئة المواصفات والمقاييس تحوَّلت إلى أداة ابتزاز منهجية.
لا يحتاج المرء إلى كثير عناء ليكتشف أن سلطة صنعاء تتعامل مع القانون كـ"قائمة طلبات" مرنة. فالقاضي "الأنصاري" الذي يحكم لمصلحة المتنفذ حمود جعفر – دون أدلة أو تحقيق – هو نفسُه الذي يُصدر قرارات "حجز تحفظي" على أموال أحمد الكبوس بمزاعم واهية. هذه السيركية القانونية تُعيد إنتاج نموذج "المافيا الصقلية" في القرن العشرين، حيث كان القضاء أداةً لتصفية الحسابات بين العائلات المتنافسة.
اللافت أن بعض قيادات أنصار الله أنفسهم – مثل سلطان السامعي – يعترفون بأن الإجراءات ضد التجار "غير قانونية"، لكن الاعتراف هنا لا يختلف عن تذمر لصٍ من شريكه لأنه "سرق أكثر من حصته". فالنظام القضائي، الذي كان يُفترض أن يكون حاميًا للحقوق، تحول إلى شريك في الجريمة المنظمة، تمامًا كما حوّل ستالين المحاكم السوفيتية إلى مسرح لإعدامات الخصوم السياسيين تحت غطاء "الشرعية الثورية".
لم يعد خافيًا أن سلطة صنعاء تكرر أخطاء بعض الأنظمة الشمولية التي ظنت أن بإمكانها استبدال رأس المال الوطني بوعود "التضحية" و"المقاومة". لكن التاريخ يخبرنا أن حتى الاتحاد السوفيتي، رغم قوته الأمنية، لم يستطع منع انهياره الاقتصادي عندما حوَّل المواطن إلى مجرد رقم في معادلة بيروقراطية.
اليوم، يكتب أنصارالله فصلهم الخاص في سجل "الدول الفاشلة"، حيث تُقاس القوة بعدد الأطقم المسلحة، لا بعدد المصانع العاملة. أما أولئك التجار الذين يُحاصرون حتى الهروب، فهم ضحايا نظامٍ قرر أن "الوطنية" تعني أن تكونَ فقيرًا، مُطيعًا، أو... مغادرًا!